فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {لو كان عرضًا قريبًا}
قال المفسرون: نزلت في المنافقين الذين تخلَّفوا عن غزوة تبوك.
ومعنى الآية: لو كان ما دُعوا إليه عَرَضًا قريبًا.
والعرض: كلُّ ما عرض لك من منافع الدنيا، فالمعنى: لو كانت غنيمةً قريبة، أو كان سفرًا قاصدًا، أي: سهلًا قريبًا لاتَّبعوك طمعًا في المال {ولكن بَعُدَتْ عليهم الشُّقَّةُ} قال ابن قتيبة: الشقة: السفر؛ وقال الزجاج الشقة: الغاية التي تقصد؛ وقال ابن فارس: الشقة: مصير إلى أرض بعيدة، تقول: شق شاقّة.
قوله تعالى: {وسيحلفون بالله} يعني: المنافقين إذا رجعتم إليهم {لو استطعنا} وقرأ زائدة عن الأعمش، والأصمعي عن نافع: {لوُ استطعنا} بضم الواو وكذا أين وقع، مثل: {لوِ اطَّلعتَ عليهم} [الكهف: 18]، كأنه لما احتيج إلى حركة الواو، حركت بالضم لأنها أخت الواو، والمعنى: لو قدرنا وكان لنا سَعَةٌ في المال.
{يهلكون أنفسهم} بالكذب والنفاق {والله يعلم إنهم لكاذبون} لأنهم كانوا: أغنياء ولم يخرجوا. اهـ.

.قال القرطبي:

{لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ}
لمّا رجع النبيّ صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أظهر الله نفاق قوم.
والعَرَض: ما يعرض من منافع الدنيا.
والمعنى: غنيمة قريبة.
أخبر عنهم أنهم لو دُعُوا إلى غنيمة لاتبعوه.
{عَرَضًا} خبر كان.
{قَرِيبًا} نعته.
{وَسَفَرًا قَاصِدًا} عطف عليه.
وحذف اسم كان لدلالة الكلام عليه.
التقدير: لو كان المدعوّ إليه عَرَضًا قريبًا وسفرًا قاصدًا أي سهلًا معلوم الطُرق لاتبعوك.
وهذه الكناية للمنافقين كما ذكرنا؛ لأنهم داخلون في جملة من خوطب بالنفير.
وهذا موجود في كلام العرب، يذكرون الجملة ثم يأتون بالإضمار عائدًا على بعضها؛ كما قيل في قوله تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} أنها القيامة.
ثم قال جل وعز: {ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيًّا} يعني جل وعز جهنم.
ونظير هذه الآية من السُّنة في المعنى قوله عليه السلام: «لو يعلم أحدهم أنه يجد عَظْمًا سمينًا أو مِرْماتين حسنتين لشَهِد العِشاء» يقول: لو علم أحدهم أنه يجد شيئا حاضرًا معجّلًا يأخذه لأتى المسجد من أجله.
{ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة} حكى أبو عبيدة وغيره أن الشقة السفر إلى أرض بعيدة.
يقال: منه شُقّة شاقة.
والمراد بذلك كلّه غزوة تبوك.
وحكى الكسائيّ أنه يقال: شُقة وشِقة.
قال الجوهري: الشّقة بالضم من الثياب؛ والشّقة أيضًا السفر البعيد وربما قالوه بالكسر.
والشِّقة شظِيّة تشظى من لوح أو خشبة.
يقال للغضبان: احتدّ فطارت منه شقة، بالكسر.
{وَسَيَحْلِفُونَ بالله لَوِ استطعنا} أي لو كان لنا سِعَة في الظَّهْر والمال.
{لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} نظيره {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] فسّرها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «زادٌ وراحلة» وقد تقدّم.
{يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ} أي بالكذب والنفاق.
{والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في الاعتلال. اهـ.

.قال الخازن:

قوله: {لو كان عرضًا قريبًا} فيه إضمار تقديره لو كان ما تدعوهم إليه عرضًا يعني غنيمة سهلة قريبة التناول والعرض ما عرض لك من منافع الدنيا ومتاعها.
يقال: الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر {وسفرًا قاصدًا} يعني سهلًا قريبًا {لاتبعوك} يعني لخرجوا معك {ولكن بعدت عليهم الشقة} أي المسافة والشقة السفر البعيد، لأنه يشق على الإنسان سلوكها.
ومعنى الآية: لو كان العرض قريبًا والغنيمة سهلة والسفر قاصدًا لاتبعوك طمعًا في تلك المنافع التي تحصل لهم ولكن لما كان السفر بعيدًا وكانوا يستعظمون غزو الروم لا جرم أنهم تخلفوا لهذا السبب ثم أخبر الله سبحانه وتعالى عنهم أنه إذا رجع النبي عليه السلام من هذا الجهاد يحلفون بالله وهو قوله تعالى: {وسيحلون بالله} يعني المنافقين الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة {لو استطعنا لخرجنا معكم} يعني إلى هذه الغزوة {يهلكون أنفسهم} يعني بسبب هذه الأيمان الكاذبة والنفاق وفيه دليل على أن الأيمان الكاذبة تهلك صاحبها {والله يعلم إنهم لكاذبون} يعني في أيمانهم وهو قولهم: لو استطعنا لخرجنا معكم لأنهم كانوا مستطيعين الخروج. اهـ.

.قال أبو حيان:

{لوكان عرضًا قريبًا وسفرًا قاصدًا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة} أي لو كان ما دعوا إليه غنمًا قريبًا سهل المنال، وسفرًا قاصدًا وسطًا مقاربًا.
وهذه الآية في قصة تبوك حين استنفر المؤمنين فنفروا، واعتذر منهم فريق لأصحابه، لاسيما من القبائل المجاورة للمدينة.
وليس قوله: {يا أيها الذين آمنوا ما لكم} خطابًا للمنافقين خاصة، بل هو عام.
واعتذر المنافقون بأعذار كاذبة، فابتدأ تعالى بذكر المنافقين وكشف ضمائرهم.
لاتبعوك: لبادروا إليه، لا لوجه الله، ولا لظهور كلمته، ولكن بعدت عليهم الشقة أي: المسافة الطويلة في غزو الرّوم.
والشّقة بالضم من الثياب، والشقة أيضًا السفر البعيد، وربما قالوه بالكسر قاله: الجوهري.
وقال الزجاج: الشقة الغاية التي تقصد.
وقال ابن عيسى: الشقة القطعة من الأرض يشق ركوبها.
وقال ابن فارس: الشقة المسير إلى أرض بعيدة، واشتقاقها منه الشق، أو من المشقة.
وقرأ عيسى بن عمر: بعدت عليهم الشِّقِة بكسر العين والشين، وافقه الأعرج في بعدت.
وقال أبو حاتم: إنها لغة بني تميم في اللفظين انتهى.
وحكى الكسائي: شقة وشقة.
وسيحلفون: أي المنافقون، وهذا إخبار بغيب.
قال الزمخشري في قوله: {وسيحلفون بالله}، ما نصه بالله متعلق بسيحلفون، أو هو من كلامهم.
والقول مراد في الوجهين أي: سيحلفون متخلصين عند رجوعك من غزوة تبوك معتذرين، يقولون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم، أو وسيحلفون بالله يقولون لو استطعنا.
وقوله: {لخرجنا} سدَّ مسدَّ جواب القسم.
ولو جميعًا والإخبار بما سوف يكون بعد القول من حلفهم واعتذارهم، وقد كان من جملة المعجزات.
ومعنى الاستطاعة استطاعة العدة، واستطاعة الأبدان، كأنهم تمارضوا انتهى.
وما ذهب إليه من أنّ قوله: {لخرجنا}، سدَّ مسدَّ جواب القسم.
ولو جميعًا ليس بجيد، بل للنحويين في هذا مذهبان: أحدهما: إن لخرجنا هو جواب القسم، وجواب لو محذوف على قاعدة اجتماع القسم والشرط إذا تقدم القسم على الشرط، وهذا اختيار أبي الحسن بن عصفور.
والآخران لخرجنا هو جواب لو، وجواب القسم هو لو وجوابها، وهذا اختيار ابن مالك.
إنْ لخرجنا يسد مسدهما، فلا أعلم أحدًا ذهب إلى ذلك.
ويحتمل أن يتأوّل كلامه على أنه لما حذف جواب لو، ودل عليه جواب القسم جعل، كأنه سدَّ مسدَّ جواب القسم وجواب لو جميعًا.
وقرأ الأعمش وزيد بن علي: لوُ استطعنا بضم الواو، وفرّ من ثقل الكسرة على الواو وشبهها بواو الجمع عند تحريكها لالتقاء الساكنين.
وقرأ الحسن: بفتحها كما جاء: {اشتروا الضلالة} بالأوجه الثلاثة يهلكون أنفسهم بالحلف الكاذب، أي: يوقعونها في الهلاك به.
والظاهر أنها جملة استئناف إخبار منه تعالى.
وقال الزمخشري: يهلكون أنفسهم إما أن يكون بدلًا من سيحلفون، أو حالًا بمعنى مهلكين.
والمعنى: أنهم يوقعونها في الهلاك بحلفهم الكاذب، وما يخلفون عليه من التخلف.
ويحتمل أن يكون حالًا من قوله: {لخرجنا} أي، لخرجنا معكم وإنْ أهلكنا أنفسنا وألقيناها في التهلكة بما يحملها من المسير في تلك الشقة، وجاء به على لفظ الغائب لأنه مخبر عنهم.
ألا ترى أنه لو قيل: سيلحفون بالله لو استطاعوا لخرجوا لكان سديدًا؟ يقال: حلف بالله ليفعلن ولأفعلن، فالغيبة على حكم الإخبار، والتكلم على الحكام انتهى.
أما كون يهلكون بدلًا من سيحلفون فبعيد، لأن الإهلاك ليس مرادفًا للحلف، ولا هو نوع من الحلف، ولا يجوز أنْ يبدل فعل من فعل إلا أن يكون مرادفًا له أو نوعًا منه.
وأما كونه حالًا من قوله: {لخرجنا}، فالذي يظهر أن ذلك لا يجوز، لأن قوله لخرجنا فيه ضمير التكلم، فالذي يجري عليه إنما يكون بضمير المتكلم.
فلو كان حالًا من ضمير لخرجنا لكان التركيب: نهلكُ أنفسنا أي: مهلكي أنفسنا.
وأما قياسه ذلك على حلف بالله ليفعلنَّ ولأفعلنَّ فليس بصحيح، لأنه إذا أجراه على ضمير الغيبة لا يخرج منهم إلى ضمير المتكلم، لو قلت: حلف زيد ليفعلن وأنا قائم، على أن يكون وأنا قائم حالًا من ضمير ليفعلن لم يجز، وكذا عكسه نحو: حلف زيد لأفعلن يقوم، تريد قائمًا لم يجز.
وأما قوله: وجاء به على لفظ الغائب لأنه مخبر عنهم فهي مغالطة ليس مخبرًا عنهم بقوله: {لو استطعنا لخرجنا معكم}، بل هو حاك لفظ قولهم.
ثم قال: ألا ترى لو قيل: لو استطاعوا لخرجوا لكان سديدًا إلى آخره كلام صحيح، لكنه تعالى لم يقل ذلك إخبارًا عنهم، بل حكاية.
والحال من جملة كلامهم المحكي، فلا يجوز أن يخالف بين ذي الحال وحاله لاشتراكهما في العامل.
لو قلت: قال زيد: خرجت يضرب خالدًا، تريد اضرب خالدًا، لم يجز.
ولو قلت: قالت هند: خرج زيد أضرب خالدًا، تريد خرج زيد ضاربًا خالدًا، لم يجز. اهـ.

.قال أبو السعود:

{لَّوْ كَانَ} صرفٌ للخطاب عنهم وتوجيهٌ له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تعديدًا لما صدَر عنهم من الهَنات قولًا وفعلًا على طريق المباثةِ وبيانًا لدناءة هممِهم وسائرِ رذائلِهم أي لو كان ما دعَوا إليه {عَرَضًا قَرِيبًا} العرَضُ ما عرَض لك من منافعِ الدنيا أي لو كان ذلك غُنمًا سَهلَ المأخذِ قريبَ المنال {وَسَفَرًا قَاصِدًا} ذا قصدٍ بين القريبِ والبعيد {لاَّتَّبَعُوكَ} في النفير طمعًا في الفوز بالغنيمة، وتعليقُ الاتباعِ بكلا الأمرين يدل على عدم تحققِه عند توسّط السفرِ فقط {ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة} أي المسافةُ الشاطّةُ التي تُقطع بمشقة وقرئ بكسر العين والشين {وَسَيَحْلِفُونَ} أي المتخلفون عن الغزو وقوله تعالى: {بالله} إما متعلقٌ بسيحلفون أو هو من جملة كلامِهم والقولُ مرادٌ على الوجهين أي سيحلفون بالله اعتذارًا عند قفولك قائلين: {لَوِ استطعنا} أو سيحلِفون قائلين: بالله لو استطعنا الخ، أي ولو كان لنا استطاعةٌ من جهة الصحةِ أو من جهتهما جميعًا حسبما عنّ لهم من الكذب والتعللِ، وعلى كلا التقديرين فقوله تعالى: {لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} سادٌّ مسدَّ جوابي القسمِ والشرط جميعًا.
أما على الثاني فظاهرٌ وأما على الأول فلأن قولَهم: لو استطعنا في قوة بالله لو استطعنا لأنه بيانٌ لقوله تعالى: {سَيَحْلِفُونَ بالله} وتصديقٌ له، والإخبارُ بما سيكون منهم بعد القُفولِ وقد وقع حسبما أُخبر به من جملة المعجزات الباهرة، وقرئ لو استطعنا بضم الواو تشبيهًا لها بواو الجمع كما في قوله عز وجل: {فَتَمَنَّوُاْ الموت} {يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ} بدلٌ من سيحلفون لأن الحلِفَ الكاذبَ إهلاكٌ للنفس ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «اليمينُ الفاجرةُ تدع الديارَ بلاقِعَ» أو حالٌ من فاعله أي مهلِكين أنفسَهم أو من فاعل خرَجْنا، جيء به على طريقة الإخبارِ عنهم كأنه قيل: نهلك أنفسَنا أي لخرَجْنا معكم مهلِكين أنفسَنا كما في قولك: حلَف ليفعلن مكان لأفعلن {والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لكاذبون} أي في مضمون الشرطيةِ وفيما ادّعَوا ضمنًا من انتفاء تحققِ المقدم حيث كانوا مستطيعين للخروج ولم يخرجوا. اهـ.